أسباب سقوط عقوبة الذنوب عن العبد
الحمد لله، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن الاهتمام بمسالة تكفير الذنوب والخطايا مسألة مهمة جداًّ، لأنها يترتب عليها النجاة يوم القيامة، وتجنب دخول النار. وحري بالمسلم أن يعرف الأسباب التي تمحو الذنوب، وتكفر الخطايا، وتسقط عن العبد العقوبة المترتبة على الذنب. وقد دلت نصوص الكتاب والسنة على أن عقوبة الذنوب تزول عن العبد بنحو عشرة أسباب، وهي:
أحدها: التوبة
وهذا متفق عليه بين المسلمين قال - تعالى -: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم) الزمر /53. وقال – تعالى -: (ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم) التوبة / 104. وقال - تعالى -: (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات) الشورى / 35.
السبب الثاني: الاستغفار
ففي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (إِِنَّ عَبْدًا أَصَابَ ذَنْبًا فَقَالَ: رَبِّ أَذْنَبْتُ، فَاغْفِرْ لِي. فَقَالَ رَبُّهُ: أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ غَفَرْتُ لِعَبْدِي... الحديث) البخاري (7507) ومسلم (2758). وفي صحيح مسلم (2748) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لَوْلا أَنَّكُمْ تُذْنِبُونَ لَخَلَقَ اللَّهُ خَلْقًا يُذْنِبُونَ ثم يستغفرون فيَغْفِرُ لَهُمْ ).
السبب الثالث: الحسنات الماحية
كما قال - تعالى -: (وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات) هود/114. وقال - صلى الله عليه وسلم -: (الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَةِ وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ) رواه مسلم (233). وقال: (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) البخاري (38) ومسلم (760). وقال: (من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه) البخاري (35) ومسلم (760) وقال: (مـن حج هـذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه) البخاري (1521) ومسلم (1350). وقال: (الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار) الترمذي (2616) وصححه الألباني في صحيح الترمذي رقم: (2110).
وقد ذهب بعض العلماء إلى أن مثل هذه النصوص تشمل تكفير الكبائر والصغائر واستدلوا على ذلك بأمور
أحدها:
أن تكفير الصغائر يحصل بفعل الفرائض واجتناب الكبائر كما دل على ذلك الحديث المتقدم (الصلوات الخمس والجمعة وصيام رمضان... الحديث). ودل على ذلك أيضاً قول الله - تعالى -: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم) النساء / 31. فالقيام بالفرائض مع ترك الكبائر سبب لتكفير الصغائر. وأما الأعمال الزائدة من التطوعات فلابد أن يكون لها ثواب آخر، فإن الله - سبحانه - يقول: (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره. ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) الزلزلة / 7،8.
الثاني:
أنه قد جاء التصريح في بعض الأحاديث بأن المغفرة قد تكون مع الكبائر كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: (من قال: أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه. غُفِرَ له وإن كان فر من الزحف). رواه أبو داود (3577) والترمذي ((1517 وصححه الألباني في صحيح أبي داود ((1343
وقال أكثر العلماء: إن الحسنات الماحية لا تكفر إلا الصغائر، أما الكبائر فتحتاج إلى توبة خاصة، ولا تكفي الحسنات الماحية لتكفيرها. انظر شرح النووي لصحيح مسلم (3/112). فيجب على المسلم أن يحذر من المعاصي صغيرها وكبيرها.
السبب الرابع: دعاء المؤمنين للمؤمن
كدعاء الملائكة واستغفارهم له كما في قوله - تعالى -: (الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا) غافر / 7 الآية، ومثل صلاة المؤمنين على جنازته، فعن عائشة وأنس بن مالك رضي الله عنه الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (مَا مِنْ مَيِّتٍ تُصَلِّي عَلَيْهِ أُمَّةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَبْلُغُونَ مِائَةً كُلُّهُمْ يَشْفَعُونَ لَهُ إِلا شُفِّعُوا فِيهِ). مسلم (947). وعن ابن عباس قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (مَا مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ يَمُوتُ فَيَقُومُ عَلَى جَنَازَتِهِ أَرْبَعُونَ رَجُلا لا يُشْرِكُونَ بِاللَّهِ شَيْئًا إِلا شَفَّعَهُمْ اللَّهُ فِيهِ) رواه مسلم ((948
السبب الخامس: ما يعمل للميت من أعمال البر كالصدقة ونحوها
أما الصدقة فينتفع بها الميت، كما دل على ذلك نصوص السنة الصحيحة الصريحة، واتفاق الأئمة. وكذلك العتق والحج، بل قد ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه). رواه البخاري (195) ومسلم (1147)). وأَمْرُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بالصيام عن الميت دليل على أنه ينتفع به. وروى البخاري (1953) ومسلم (1148) عن ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَتْ امْرَأَةٌ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ نَذْرٍ أَفَأَقْضِيهِ عَنْهَا؟ قَالَ: (نَعَمْ، فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى ).
وروى ابن ماجه (3660) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: (إِنَّ الرَّجُلَ لَتُرْفَعُ دَرَجَتُهُ فِي الْجَنَّةِ. فَيَقُولُ: أَنَّى هَذَا؟ فَيُقَالُ: بِاسْتِغْفَارِ وَلَدِكَ لَكَ) حسنه الألباني في صحيح ابن ماجه((2953.
السبب السادس:شفاعة النبي وغيره في أهل الذنوب يوم القيامة
كما قد تواترت عنه أحاديث الشفاعة مثل قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: (شفاعتى لأهل الكبائر من أمتى). رواه الترمذي (2435) وصححه الألباني في صحيح الترمذي (1983). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (خيرت بين أن يدخل نصف أمتى الجنة وبين الشفاعة فاخترت الشفاعة). رواه ابن ماجه (4311) وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (3480). وروى البخاري (6886) ومسلم (269) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - أَنَّ نَاسًا فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: نَعَمْ.... ثم ذكر الحديث، حتى ذكر مرور المؤمنين على الصراط ثم قال: حَتَّى إِذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ النَّارِ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ بِأَشَدَّ مُنَاشَدَةً لِلَّهِ فِي اسْتِقْصَاءِ الْحَقِّ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لإِخْوَانِهِمْ الَّذِينَ فِي النَّارِ. يَقُولُونَ: رَبَّنَا كَانُوا يَصُومُونَ مَعَنَا، وَيُصَلُّونَ وَيَحُجُّونَ. فَيُقَالُ لَهُمْ: أَخْرِجُوا مَنْ عَرَفْتُمْ، فَتُحَرَّمُ صُوَرُهُمْ عَلَى النَّارِ، فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا قَدْ أَخَذَتْ النَّارُ إِلَى نِصْفِ سَاقَيْهِ، وَإِلَى رُكْبَتَيْهِ. ثُمَّ يَقُولُونَ: رَبَّنَا مَا بَقِيَ فِيهَا أَحَدٌ مِمَّنْ أَمَرْتَنَا بِهِ... الحديث)
السبب السابع:المصائب التي يكفر الله بها الخطايا في الدنيا
كما في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلا وَصَبٍ وَلا هَمٍّ وَلا حُزْنٍ وَلا أَذًى وَلا غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ). البخاري (5642) ومسلم (2573). والوصب هو المرض.
السبب الثامن:ما يحصل في القبر من الفتنة والضغطة والروعة
فإن هذا مما يُكَفِّرُ اللهُ به الخطايا.
السبب التاسع: أهوال يوم القيامة وكربها وشدائدها
مثل ازدحام الناس، ووقوفهم على أقدامهم مدة خمسين ألف سنة تحت الشمس التي تقرب من رؤوسهم، فيصيب الناسَ من ذلك كربٌ عظيم، فيذهبون إلى الأنبياء يطلبون منهم أن يشفعوا لهم عند الله - تعالى - حتى يأتي ليحكم بين العباد، ويريح الناس من شدة هذا الموقف.
السبب العاشر:رحمة الله وعفوه ومغفرته بلا سبب من العباد
قال الله - تعالى -: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) النساء/48. وقال - صلى الله عليه وسلم -: (خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَلَى الْعِبَادِ فَمَنْ جَاءَ بِهِنَّ لَمْ يُضَيِّعْ مِنْهُنَّ شَيْئًا اسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِنَّ كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِنَّ فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ) رواه أبو داود (1420) وصححه الألباني في صحيح الجامع (3243 (وروى البخاري (6886) ومسلم (269) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ما ذكر شفاعة المؤمنين في إخوانهم ممن دخلوا النار أن الله - تعالى - يقول: (شَفَعَتْ الْمَلائِكَةُ، وَشَفَعَ النَّبِيُّونَ، وَشَفَعَ الْمُؤْمِنُونَ، وَلَمْ يَبْقَ إِلا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنْ النَّارِ، فَيُخْرِجُ مِنْهَا قَوْمًا لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ) والمراد أنهم من الموحدين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين